بقلم : م مظفر
… كانت المدينة تكتسي بحلة بيضاء بأكملها وقد
عبثت رياح الشتاء الباردة كالسوط على وجوه المارة كانت حركة المرور كثيفة
رفع سعيد زجاج سيارته كان غارقا في تفكيره.. فتاة صغيرة لفتت انتباهه كانت تطرق زجاجات
السيارات جيئة وذهابا طلبا من أصحابها شراء بضع من سجائرها كانت تعلو خدود الفتاة
كدمات شديدة بين الحينة والاخرى…كانت تمرر يداها الصغيرتان على فمها ومن ثم على
وجهها المدمى لتدفئته. لم يفني اصحاب السيارات جهدا بسيطا لفتح زجاجات
سياراتهم وإعارة انتباههم لتلك الفتاة التي خابت آمالها في جني بضع من المال…
لم يكن قد مضى وقت طويل على إطلاق سراح سعيد المسجون سابقا آلم المشهد
قلبه خفض زجاج سيارته ودعا الفتاة يريد شراء كل
سجائرها أتت الفتاة الصغيرة إليه مسرعة لاحظ انها كانت تعاني من قساوة البرد
واسنانها تصطك بشدة فتح الباب قائلا: تعالي الى هنا. ابنتي الصغيرة لتتدفئي عادت الفتاة أدراجها من
حيث أتت والرعب بدأ يساورها من الرجل الغريب
استغرب سعيد جدا وتساءل قائلا :
"لماذا لا تركبي معي؟"
اجابت الفتاة بلهجة
بريئة: ركبت صديقتي الأسبوع الماضي سيارة ومنذ ذلك
الحين لا توجد اي أخبار تشي بحالتها امرتني والدتي بعدم ركوب سيارات الغرباء! لمع الضوء الاخضر علا ضجيج صافرات السيارات في
الخلف أجبر سعيد على التحرك أشار على الفتاة بأن تأتي اليه بعد مفترق الطرق
عندما
كان سعيد في السجن وصلت الى مسامعه اخبار المشردين ممن اتخذوا من القبور والكراتين
مساكن لهم ينامون فيها. سمع عن بيع الآباء لفلذات اكبادهم ب 50 دولاراً
من شدة الفقر المدقع عن اطفال الكراتين ممن سحقوا تحت عجلات السيارات المارة ليلا عن ذاك الأب الذي باع كليته وقرنية عينه
لسد رمق ابنائه عن تلك الأم التي اجبرها الفقر على الانتحار وقتل طفلها .
صوت الفتاة الصغيرة القادم من خلف الزجاج كسر
أفكاره! سيدي .... هل تشتري جميع السجائر؟؟؟ خفض
سعيد زجاجة سيارته مسح بيده على رأس الفتاة وقال نعم، يا عزيزتي أعطاها
كل المال الذي كان لديه وقال بهذا المال ستحصلين على ملابس دافئة يجب ان تعودي الي البيت الطقس هنا بارد جدا،
أين أمك؟ يبدو ان الطفلة وثقت به وقالت: هل يمكن ان ادخل سيارتك لأتدفأ فتح سعيد
الباب بسرعة.
لمعت عيناها من الفرح لقد باعت كل السجائر وقالت بمحبة : سيدي انت
حنون جدا واستمرت نحن فقراء جدا، والدتي مريضة، ليس لدينا المال
للذهاب إلى الطبيب كان أبي مدمنا، وهو في السجن منذ عامين ليس
لدينا أي شخص ليعتني بنا .
ضاقت
انفاس سعيد ولعن الملالي مئات مرات الذي كان سببا في هذه المعاناة المأساوية ولهذا
الفقر المدقع كيف يمكنهم التمتع برغد العيش في فلل فارهة تبلغ قيمتها ملايين
الدولارات وتبلغ تكاليف زواجات ابناءهم ملايين الدولارات بينما يواجه عامة الشعب
مثل هذه الاوضاع المزرية
!!! ضغطت يد
الفتاة الصغيرة بهدوء ومودة على يد سعيد وقالت: "سيدي، يجب أن أذهب
الآن"
دفء يداها غير
حياة سعيد الى الأبد
لم يساور النوم سعيد تلك الليلة حتى طلع الصباح
مأساة الفتاة الصغيرة لا زالت تجوب خاطره خلطت أفكاره وشوشتها كانت العشر
سنوات التي قضاها خلف القضبان بسبب مشاركته لمظاهرة طلابية عانى خلالها ويلات
التعذيب والنفي والحرمان قرر أن يأخذ حياته بعيدا عن كل هذا ويعيش حياته
بهدوء تساءل محدثا نفسه ما الفائدة من كل هذا! انا وحيد وصدى صوتي لن يصل الى الاخرين وصلت اللحظات الصعبة إنها الإنتخابات
فمن ناحية، لا تزال ذكريات سنوات السجن حاضرة في
باله إذ كان مدركا من أنه في حال أعيد القبض عليه هذه المرة، فإن عقوبة
الإعدام ستكون في انتظاره. ماذا عن مصير امه واخته لو اعتقل ؟ ستتدمر حياتهن ومن ناحية أخرى، فإن روحه
المتمردة لم تهدأ بعد، واليد الصغيرة التي مدت اليه انسته معاناة عشرات سنوات
ودعته إلى التمرد من شأن تلك اللحظة أن تكون أقوى اللحظات.
. تذكر لوهلة كلام احد السجناء المقاومين عندما سئل عن سبب مقاومته رغم كل التعذيب الذي
تعرض له هل وصل صوتك إلى أحد ما: فاجاب بثقة : حتى لو خيم الظلام الدامس على حياة جميع الناس،
فإن ضوء شمعة صغيرة قد تطمسه لتنير ضوء أمل في قلوبهم كالشمعة تماماً.
.......................................................................................................